د. عبدالله بن عبدالعزيز العنقري
بسم الله الرحمن الرحيم
كم يحار العاقل حين يقف على ممارسات مُضلِّلة في مشرقنا الإسلامي تتميز بأنها مكشوفة، لا تنطلي على من أمعن النظر فيها، لا لمصادمتها للجوانب العلمية فحسب، بل لمصادمتها للواقع الذي يراه كل ذي عينين لم يُصِبْهما الغَبَش.
ومن أسوأ هذه الممارسات ما انتدب إليه فئام نصّبوا أنفسهم وكلاء بالقوة عن عدد من التيارات المعاصرة ذات المناحي الفلسفية المكشوفة والرموز العالمية المشهورة، ليقربوا شُقَّة الخلاف بينها وبين الإسلام، بل ويعلنوا بلا تردد أن الإسلام - في شموخه وعليائه وعظمة مصادره - متماشٍ تماماً مع تلك التيارات التائهة، مع أن تلك التيارات - في كتبها ومقالاتها، وجميع مؤتمراتها وملتقياتها عبر تاريخها الطويل - قد حددت حقيقة موقفها من الكون والحياة والإنسان، بما يبرهن على بطلان ادعاء قرب ما بينها وبين أي دين، لأنها قد قامت في أصل فلسفتها على ضرورة إقصاء الدين عن الحياة وإزالة سلطانه عنها بالكُليّة، وتنشئة إنسان غير مكترث بتاتاً بأمر الإيمان بالله، ليتجه بكل طاقاته إلى أمرحياته الماديّة الصِّرفة، ولا سِرَّ يُفشى بهذا، لأن ظروف نشأة التيارات التي نتحدث عنها - بوضعها الماثل أمامنا - معروفة تاريخيّاً، من جهة نشأتها على خلفية صراع طويل مرير بين المتسلطين من رجالات الكنيسة وبين خصومهم في أوروبا، مما مهَّد هناك لظهور تيارات جعلت من أولويّات مهامّها إقصاء أي دين عن طريقها، فنشْأتُها - بلا ريب - نشأة مضطربة قلقة، وفي إثر صراع متهوِّر ولَّد رغبة متزايدة في انتهاج مسلك ردة الفعل ضد كل دين، وبخاصة بعد انتصار الثورة الفرنسية التي حاربت الدين بكل عنف.
والبراهين الدالة على هذا أوسع من أن يحاط بها، سواء من واقع التاريخ الأوروبي أو الشواهد المقررة لذلك في أدبيات رموز هذه التيارات ومنظِّريها.
ومع كل هذا ظل الترويج لهذه التيارات - داخل أمتنا - يُمارِس أسلوب التضليل في عرضها، وبطريقة لا يرتضيها حتى مُنظِّرو تلك التيارات الذين صدّروها، إذ أخذ المروِّجون لها على عواتقهم أن يعرضوها بصورة تخالف حقيقتها التي هي عليها.
ومن هنا أُقْحِم الإسلام في أكثر من تيار وفد إلى الأمة من الشرق أو الغرب، لا بدعوى عدم التعارض بين ذاك التيار وبين الإسلام فحسب، بل بدعوى الالتقاء التام، فلذا روَّجوا لأسماء مُهجَّنة، كاسم: (اشتراكية الإسلام) و(ديمقراطية الإسلام) و(ليبرالية الإسلام) وأمثالها من الأسماء التي يصدق عليها قول الشاعر:
أيها المُنكِح الثُّرَيَّا سُهَيلا
عمرك الله كيف يلتقيان
هي شاميَّة إذا ما استقلَّت
وسهيل إذا استقلَّ يمان
وقد تصدى لمهمة المزج المزوَّرة ثُلّة برزت مشاريعها المضلِّلة بقوة في القرن الماضي، وانتهجت سلوك مسارين متوازيين في هذا السبيل.
الأول: يعتمد إخفاء جوانب خطيرة تجلي حقيقة هذه التيارات الوافدة، ولذا عرضوها بأسلوب يراعي طمس ما يوضح أهم ما فيها، من أسسها الحقيقية المبنية على ما قرره أساتذة كل تيار، من الجانب المؤكِّد على إقصاء الدين عن الحياة، وربما المعلِن حربَه عليه.
الثاني: العمل - بعد ذلك - على تقريب أو دمج ما بين الإسلام وبين التيار المختار، من خلال التركيز على مصطلحات عامة، كالحرية والإخاء والعدالة والمساواة، والدفعُ بأن هذه الأمور مشتركة بين دين الله وبين التيار المروَّج له، رغم التفاوت الهائل بين الوجهة الشرعية حيال هذه المصطلحات وبين ما تقرره بشأنها جميع التيارات التي رفعتها بلا استثناء.
والمقال يتضح بالمثال: فالاشتراكية حين طبَّقَتْ أفكارها البائدة عدد من البلدان، ورفعت شعاراتها الرنّانة، وظهر لها ألوف الدعاة في العالم قابَلَ هذه الأفكارَ الضالة عددٌ من المروِّجين لها داخل بلداننا يزعمون أنها متماشية مع الإسلام، وتداولوا في حينه عبارة: (الإسلام نظام اشتراكي)، ووصموا رموزاً كباراً من سلف الأمة بالاشتراكيين، كما هو الحال مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث جعله أنصار هذا التيار (الخليفة الاشتراكي).
ومِثْلُ ذلك الديمقراطية، فإن عدداً روَّج لها - ولا يزال - بنفس الأسلوب، فكتبوا عن ديمقراطية الإسلام، وسمَّوا عدداً من أحكام الشرع الشريف باسم النظم الديمقراطية، حتى مزج بعضهم بين الشورى والديمقراطية تحت اسم (شوروقراطية)، ومرة أخرى لم يسلم عمر رضي الله عنها من إقحامه في التيار الذي ارتضوه، فصار عندهم (الخليفة الديمقراطي).
والذي لا ينقضي منه العجب أن بعض الذين روّجوا للاشتراكية قبل انهيارها بدعوى تآخيها مع الإسلام قد أعادوا الكَرَّة بالترويج للديمقراطية - خصم الاشتراكية - بدعوى تآخيها أيضاً مع الإسلام!!
فليت شعري كيف الْتَقَى الإسلام مع الاشتراكية ومع الديمقراطية على حدٍّ سواء!؟
إن الداء هنا يكمن في وجود من يسايرون هذه التيارات، على حساب الإسلام، مُدّعين أن ذلك مما يجعل الإسلام ديناً مقبولاً في الأوساط العالمية، إذ لا مصادمة فيه لديهم لأي اتجاه!
وبناء عليه فإن بروز أي مبدأ على أنقاض الديمقراطية - كما سيرى الناس يوماً ما - سيُقابَل بهذا اللون من التعامل، لأن الإشكال عائد إلى ترسُّخ منهج عقيم في خلط الحق بالباطل، وطمس معالم الحقيقة، سواء في دين الله، أو في تيارات التِّيه والضياع الوافدة.
ولا يَغِيب عن القارئ الكريم أن هذا اللون من التعامل مع هذه التيارات إنما يحدث بكل مرارة داخل أمتنا فقط؛ لأن مُروِّجي تلك التيارات يستيقنون صعوبة، بل واستحالة المناداة العامة بهذه التيارات لدينا بالوجه الحقيقي الذي هي عليه في بلادها، ولذا سعوا إلى عمليات التهجين الفاشلة تلك، لا ليظهروا تلك التيارات في صورة التيار الذي لا يعارضه الإسلام؛ بل في صورة التيار الذي يشهد له الإسلام ويزكّيه.
والأمر المؤكَّد أن التعرف الدقيق على حقيقة أي تيار قديم أوحديث له مسار محدَّد يعيه كل ذي منهج علمي في دراسة المذاهب والأديان، لأن كل تيار له - كما قدّمت - أساتذة ومُنظِّرون معتبرون، فهم المصادر التي عنهم صدرت هذه التيارات، كما أنهم المظاهر الذين بهم ظهرت، فالتعرف على حقيقة تلك التيارات إنما يكون من خلال ما سطره هؤلاء بأقلامهم وفاهوا به بألسنتهم، أما المستوردون المتلقُّون لها فهم مجرد تلامذة لأولئك، منهم يتعلمون، ولهم يتبعون، وعلى خُطاهم يسيرون، فهم كما قيل:
نقَّطتموا لهمُ وهم خطُّوا على
نُقَط لكم كمعلِّم الصبيان
ومن هنا فإن الحقيقة الكبيرة التي يجب أن نستحضرها دائماً هي أن ما ينفيه أولئك التلامذة المُرِيدون - مما قد أثبته الأساتذة المنظِّرون - ما هو إلا نوع تدليس وتَعْمِية على الناس من قِبَلِ المريدين، كما فعلوها مع الاشتراكية عندما روّجوا لها بأسلوب مضلِّل، ولم يُجَلُّوها للجماهير المستغفَلة بوجهها الكالح الذي يوضح حقيقتها في بلادها التي وفدت منها، حيث الصراحة، بل الوقاحة في عرضها بأسلوب لا يمكن أن يقبله حتى أجهل المسلمين، لو صدق الناقلون في عرضها.
وما يُروَّج له اليوم في أوساط أمتنا عن الديمقراطية يصدق عليه ما ذكرنا عن التجربة الاشتراكية البائسة، فإن جوانب كثيرة من الديمقراطية لم تُوضَّح للأمة، لا من جهة حقيقتها ومفهومها الذي هي عليه بالفعل، ولا من جهة تداعياتها بعد التطبيق، تلك التداعيات التي أثمرت إشكالات كبيرة لم تزل المجتمعات التي انتشرت فيها تعاني آثارها، كما سترى في هذه المقالة موجزاً بعون الله، وبشهادة الشهود من أهلها.
ولنعرض للديمقراطية من هذين الجانبين: (حقيقتها، وآثارها بعد التطبيق) بإنصاف ومصداقية، لنقف على واقع الديمقراطية البعيد عن الدعاية المضللة، وصيحات الحاجبين للحقيقة.
فعن الجانب الأول المتعلق بحقيقة الديمقراطية يقال:
الديمقراطية لما كانت تعني باختصارٍ (حُكْم الشعب) - سواء في وضعها البدائي عند اليونان أو في تطبيقاتها المعاصرة - صار الشعب عندهم هو مَصْدَر السلطات. بما فيها أهم وأكبر السلطات، وهي السلطة التشريعية، التي تعد في الإسلام خالص حق الله وحده لاشريك له، وبذلك أصبح الشعب في الوضع الديمقراطي المرجع الوحيد في التحليل والتحريم، فالمحَرَّم ما حرمه الشعب، والمباح ما أباحه، بقطع النظر عن وجود حكم شرعي مغاير بالكُلّيّة لاختيار الشعب في القرآن والسنة وإجماع الأمة عبر القرون. فكما أن من بدهيات المسلمين أن ماحرمه الله فهو الحرام المرفوض وما أباحه فهو المباح، فإن منطق الديمقراطية يقول: ما أباحه الشعب فهو المباح وإن حرمه الله، وما منعه الشعب فهو المرفوض، وإن أباحه الله!
لما كانت الديمقراطية تعني هذا بكل وضوح سعى كثير من الخالطين لها بالإسلام إلى إخفاء هذا الجانب الخطير منها، وركزوا على جوانب يرون أنها مشرقة في الديمقراطية، مصحوبة بعرض أوضاع مغلوطة - ومرفوضة شرعاً- في ممارسات الأفراد أو الحكومات داخل أمّتنا اليوم، لتكون محل مقارنة بين مجتمعاتنا وبين المجتمعات الغربية، هكذا - بكل سهولة - تُصوَّر الأمور بهذا التصوير غير الأمين، وكأن الديمقراطية جملة من الأخلاقيات الجميلة البعيدة عن أي منحى عقدي ضال أُسِّست عليه، مع أن هذا خلاف الواقع تماماً، فإن المعرِّفين للديمقراطية المعاصرة في البلاد الغربية من أصحاب التوجّه الأيديولوجي - الذي يمثل الوجه الحقيقي للديمقراطية - يؤكدون أنها تنبثق من إطار ذهني مبني على افتراضات، منها الإحساس الدائم بالرغبة في التغيير. وهذا التغيير الذي ينبغي أن يكون عليه الديمقراطي لابد أن يشمل عندهم (القيم والمبادئ)! والسبب في هذه الوجهة المروِّعة لا يقل خطورة عنها، إذ صرّح أصحاب هذا التوجه أن السبب هو أن البِنَى الاجتماعية لا تُبنَى على قواعد ثابتة أصلاً حتى تستقر عليها المبادئ والقيم، ولذا فإن الأفراد عندما يقررون أن شيئاً ما هو الحق والعدل فهو الحق والعدل، وهذا يعني أن الحق والعدل الذي يشيع في المجتمع الديمقراطي في وقت ما يمكن بكل سهولة أن يتغير لاحقاً، إذ لا يوجد ما يقبل الثبات، بل الأمر خاضع للمتغيرات الاجتماعية المحيطة بالديمقراطي؛ وبناء عليه فإن المجتمع ذا المنظور العقدي الأخلاقي - كالمجتمع المسلم زمن النبوة - يستحيل عندهم وبلا أدنى تردد أن يُصنَّف ضمن المجتمعات الديمقراطية. وذلك عائد إلى أن الديمقراطية إنما تُبنَى على المنظور العلماني التعدُّدِيّ للمجتمع، كما أوضح (ميشيل نوفاك) في كتابه: (روح الديمقراطية) ومِثلُه (كرن شيلدز) الذي أكّد أن الديمقراطية نظام سياسي علماني، فالدين لا علاقة له بالديمقراطية.
ومن أخطر ما يترتب على هذا ما نبه عليه (داريوش شيغان) من أن الديمقراطية تتطلب «عَلْمَنة العقول والمؤسسات» أي أن تُبنَى على أساس علماني، وذلك يستلزم بكل تأكيد قيامَ المجتمع الديمقراطي بتكريس المفاهيم العلمانية لتتشرَّبَها العقول والأفكار، كما يستلزم صبغ المؤسسات الكبار في الدولة بالصبغة العلمانية.
وهذا سبب تركيزهم على ما سمّوه (الروح الرياضية) بتقبل الرأي الآخر وعدم منعه، مهما كان بالغاً في الضلال، على حد قول (توماس جيفرسون): «لا يضيرني إن قال جاري: إن هناك عشرين إلهاً، أو لا إله» (انظر لما تقدم من تعريف الديمقراطية والنقول كتاب نقض الجذور الفكرية للديمقراطية ص20-24، 88).
فتأمل تهميش الخلاف مع الملحد والوثني من جهة، وتأمل شدة ربط الديمقراطية بالعلمانية لدى المصدِّرين لها، لتعرف درجة الزيف الذي سلكه المدَّعون وجود تطابق بين الديمقراطية والإسلام، بدعوى الْتِقاء الإسلام مع الديمقراطية في كذا وكذا من المظاهر العامة التي دندن حولها أولئك المدَّعون، وكأن الإسلام يقررها على النحو الذي تقرره الديمقراطية، والتي أخفيت كثير من جوانبها الرابطة لها بالعلمانية كما نقلنا هنا.
هذا من جهة توضيح حقيقة الديمقراطية بأسسها التي لا قوام لها إلا بها، كما يقرره أهلها.
أما من جهة التطبيق - وهو الجانب الثاني - فلابد قبل تفصيله من التنبيه إلى أن دعاة الديمقراطية في مشرقنا الإسلامي يصوِّرون مَن نقدها في مظهر بغيض جداً، إذ يُصور على أنه يؤيد البطش والظلم، حتى صاركثيرون يخشون التعرض للديمقراطية بالنقد، لأنهم سيُحْسبون في عداد الداعمين لما يسمى بالدكتاتورية، وصارت التهمة بمجانبة المفاهيم الديمقراطية مقارِنة للتهمة بالتعدي والإجرام، وكأنما أضحت الديمقراطية وحياً منزلاً لا يتطرق إليه الخطأ! والحق أن عدداً من المناصرين المتطرفين للديمقراطية - وإن ادعوا سعة الأفق وتقبل الرأي المضاد - يجعلون الديمقراطية في المقام الذي يتعالى عن النقد، كما أوضح جانباً من ذلك صاحب بحث (النقد الغربي للفكرة الديمقراطية) الذي أبان أن هذا ليس هو مفهوم المفكرين الغربيين أنفسهم عن الديمقراطية، لأنهم يقررون أنها مجرد شكل من أشكال الحكم، لها سلبياتها وإيجابياتها، وأنها ليست النظام الأمثل في كل حالة، بل قرروا بصريح العبارة أنها قد لا تناسب مجتمعاً ما أو وقتاً ما - وإن كان واقع الساسة المتسلطين في الغرب منذ عهد نابليون إلى يومنا هذا هو الذي يكرّس أن الديمقراطية يجب نشرها، مهما ارتُكِب في سبيل ذلك من تجاوزات مدمرة-
زد على هذا أن الناظر لنقد الديمقراطية عند اليونان حيث كان مهدها الأول يجد أن أكثر مشاهير فلاسفتهم ومفكريهم قد ذموا الديمقراطية منذ البداية، ونوهوا إلى السلبيات الكبيرة التي تتضمنها، بل اشتهر عن بعضهم شدة العداء لها، وتصنيفُها ضمن أنظمة الحكم الفاسدة التي لا تسعى أساساً لتحقيق المنفعة العامة.
ولم يزل نقد الديمقراطية حاضراً وواقعاً حتى في تطبيقاتها المعاصرة، حيث وُوْجِهت بنقد مركَّز عاصف من قِبَل عدد من المفكرين الغربيين، ومن أهم ما ركزوا عليه في نقدهم ما خلَّفه تطبيقها من سلبيات شائكة، من أبرزها ما يأتي (والكلام لا يزال مستفاداً عن البحث الذي أشرت إليه):
1- أن الديمقراطية رسَّخت حُكْمَ الأقلية - تحت اسم خيار الشعب - فخالف التطبيق على الأرض التنظير المقرر في الكتب، وذلك أن قلة من محترفي السياسة هي التي تضطلع بالمهمة في واقع الأمر، والشعبُ - الذي ادعوا أنه يحكم - بعيدا عن سُدّة الحكم، وإنما مهمته التوجه لصناديق الاقتراع مرة كل عدد من السنين، ليضفي ما يسمونه الشرعية على حكم هذه الأقلية، ومن هنا ركز ناقدو الديمقراطية في الغرب على حقيقة بالغة الغرابة، هي أن الديمقراطية أشبه ما تكون بالشيء الخيالي، والأمر الموهوم البعيد عن الواقع، وعليه فلا تعجب إذا علمت أن نسبة كبيرة تبلغ ثلث المحرِّرين الغربيين لا يقبلون الديمقراطية أصلاً، فضلاً عن الترويج لها في كتاباتهم! لأن الديمقراطية إنما استمدت قوتها من تلك المفردات التي جذبت إليها كثيراً من الأنصار، كمفردة الكرامة الإنسانية وضمان الحقوق ونحوهما، لكن الواقع التطبيقي قد أثبت انتهاكات شديدة لهذه المفردات على يد الديمقراطية نفسها، كما سترى في الفقرتين الآتيتين إن شاء الله.
2- من أهم ما وُجِّه للديمقراطية من النقد ذلك الواقع الفاسد الذي خلَّفته، من جهة أن كل شيء في ظل الحكم الديمقراطي أصبح ممكن الشراء، سواء المناصب السياسية أو القرارات السياسية، أو الدعم الخارجي لِقُوى يكون دعمها على حساب الجبهة الداخلية، بل وصل الأمر إلى إثارة حروب طاحنة لا هدف لها، إلا مجرد التسويق لمنتجات شركات الأسلحة، ومثله التغاضي عن النشاطات المدمِّرة للبيئة من قِبَل شركات الطاقة، ونقل صاحب البحث نموذج ذلك عن (جريج بالاست) صاحب كتاب (أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها)، حيث أوضح أنه رغم حظر القانون الأمريكي على الشركات دفع أموال لمساندة الحملات الانتخابية، إلا أن الواقع كان بخلاف هذا تماماً، حيث دعمت شركات الطاقة حملة الرئيس الأمريكي السابق، مقابل ألا تتعقب حكومته أنشطتها المدمرة للبيئة، لأن هذه الشركات تستخدم - حسب تعبير صاحب الكتاب - «أقذر وقود» مما أدى إلى نشر الأمراض وقتل الأطفال في المناطق المحيطة بتلك الشركات، أو بمناطق دفن نفاياتها الكيمائية الخطيرة، وذلك نموذج واحد من بين نماذج كثيرة تدل على حقيقة انتهاك الكرامة البشرية والحقوق الإنسانية في المعقل الأكبر للديمقراطية!
3- وجود آثار مدمرة لتطبيق الديمقراطية تتعلق بالجوانب الاقتصادية التي عليها مدار اهتمام أولئك القوم، وقد أعطى (جريج بالاست) إحصائية مَهُولة من خلال التركيز على النمو في أمريكا بين عامي 1983 - 1997م ففي هذه الحقبة الزمنية الطويلة اتضح أن (85.5%) من نسبة النمو قد استولى عليها أغنى الأمريكيين، ويُمثِّلون نسبة (1%) فقط، ورغم ارتفاع الدخل ذلك الوقت إلا أن (80%) من العائلات الأمريكية لم تتلق منه شيئاً، بينما ربحت (طبقة الواحد في المائة) (2.9 ترليون) من أصل (3.5 ترليون) دولار، فاتضح بذلك أخي القارئ حقيقة نكبة الشعب بالديمقراطية التي سموها حكم الشعب، واتضح معنى كون الديمقراطية تُرسِّخ حكم الأقلية وتُغلِّب مصالحها على حساب الشعب المستغفل الذي أوهموه بأنه يحكم، وقد خلص صاحب بحث (النقد الغربي) إلى نتيجة كبيرة الأهمية، وهي أن الواقع الغربي قد لفظ الديمقراطية، بسبب المشكلات الشائكة التي ترتبت على تطبيقها، فإن الديمقراطية قد وُجدت في الواقع الغربي لظروف تاريخية معيَّنة، ثم صار واقع الغرب المعاصر يتنكر لها الآن بعد اختلاف هذا الواقع في طبيعته وخصائصه عن ذلك الواقع الذي أفرزها.
والبحث رغم قلة أوراقه قد مُلِئ بعدة مقولات للمفكرين الغربيين الناقدين للديمقراطية، مصحوباً بوقائع وإحصائيات ذات مدلول مخيف، يدعو بعضها إلى الذهول، بل إلى الاشمئزاز.
فهذا جانب من حقيقة الديمقراطية في الغرب، من الناحية التنظيرية ومن الناحية الواقعية يثبت للمنصف أنها في سبيلها إلى أن تبلى وتضمحل هناك، ولاسيما مع تنامي الهزات الاقتصادية الشديدة بين الحين والآخر، ولهذا طرح خصوم الديمقراطية في الغرب سؤالاً محرجاً لأنصارها، وهو أن الشعب - في ظل فشل الديمقراطية - لو قرر بأكثريته أن يتخلى عن الديمقراطية، فهل سيُطبَّق خيار الشعب الذي تدعي الديمقراطية أن الحكم راجع إليه، أم ستنقلب الديمقراطية على الشعب وتلزم الأكثرية بالخيار الذي لا يريد؟ وعلى كلا التقديرين فالديمقراطية بين أمرين أحلاهما مُرّ، ومع كل هذه الوقائع المزلزلة في الغرب فالمبشرون بالديمقراطية في المشرق الإسلامي لا يزالون إلى اليوم يهتفون بها، كأنما عثروا على كنز لم يُسبَقُوا إليه، بما سيورطون به الأمة في البدء من حيث فشل الآخرون، وتلك حالة مزرية لهم تكررت مع أفكار ونظريات سقطت في معاقلها، لكنهم أبوا إلا مناصرتها في مشرقنا، وإن دخلت في بلدانها ضمن خبر (كان).
ولا تعجب أخي القارئ من مصادمة هؤلاء للحقيقة، فإن المكابرة وصلت بصاحب كتاب (التراث والتجديد ص69) حدّاً زعم فيه أن العلمانية البغيضة هي أساس الوحي، وأن الوحي علماني في جوهره!
فإذا ادعى أن وحي الله العظيم ليس إلا علمانياً في جوهره فماذا أبقى من منابذة الحقيقة ومجانبتها؟ وقد علم من له اهتمام ولو محدود بالعلمانية أنها - كما ينص معجم أكسفورد - عقيدة قائمة على استبعاد أي اعتبار مستمد من الإيمان بالإله أو الحياة الآخرة، كما أنها تقرر أنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.
ومع ذلك يصل الاستخفاف بعقول الناس حدّاً يدعي فيه صاحب التجديد المصطنع أن العلمانية العازلة للدين عن الحياة هي أساس هذا الوحي، الذي نزل لجعل الحياة كلها قائمة على أحكام الشرع بإجماع المسلمين وهذا الاستخفاف بالحقائق لا يرفضه من له أدنى غيرة على الإسلام فحسب، بل يرفضه حتى العلماني الذي يؤمن بمبدئه هذا، مما يؤكد على شدة استغفال عدد من الكُتّاب لقرائهم وبلوغهم في الاستخفاف بهم مبلغاً عاملوهم معه معاملة لا تليق بالإنسان، من حيث هو إنسان.
واللهُ يعلم أن هذا الخلط الفوضوي للإسلام بتيارات التيه الوافدة لا يمكن أن يخفى على ذي وعي بشموخ هذا الدين وعظمته، وأن من المحال الذي لا يقبل الرفع أن تُخلط فوضى التائهين الشرقيين أو الغربيين بدين الله ذي المصادر المضبوطة والنصوص المحفوظة، سواء تَسمَّت هذه التيارات باسم الديمقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية أو أي اسم في الطريق لم يصل بعد، وسواء تبنَّى هذا الخلط أفراد أو مجموعات تتحايل على شباب الأمة وشاباتها لإقناعهم بقبول الزيف في ثوب إسلامي، فإن دين الله أرفع وأسمى مما يظنون، وقد قيَّض الله لهم على الدوام من يكشف زيفهم، حفظاً لدين ارتضاه تعالى لبني الإنسان أجمعين، ولئن وُجِد في ديانات أخرى خلط وتسيُّب وصل إلى حد وجود (قس ملحد) يمارس عمله الوعظي في الكنيسة الهولندية! فإن دين الإسلام أعصى على المتسيبين مما يظنون، ولا يلين لهم: (حتى يلين لضِرْس الماضِغ الحَجَر)، إذ كيف يُخلَط دين ينص كتابه العظيم على جعل المحيى بل والممات لله رب العالمين بتيارات تقرر في أول ما تقرر وجوب عزل هذا الدين بالكُليّة عن الحياة!
وكيف يُخلط أسمى مبدأ أكرم الله به الإنسان، فعرف به ربه، وعرف من خلاله الهدف السامي الذي لأجله خلقه الله، كيف يخلط بأشد التيارات تسبّباً في تيه البشرية عن ربها وغياب الهدف من خَلْقها عن واقعها! ويكفيك أن تستحضر حقيقة أن أساتذة هذه التيارات قد خرجوا من الدنيا ولم يعلموا أعظم حقيقة فيها، وهي الهدف الذي لأجله خُلِقوا، ولأجله أقام الله سماواته وأرضه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) ذلك الهدف الذي لم يلتبس يوماً ما على صبيان المسلمين وعجائزهم، فضلاً عن علمائهم بحمد الله.
أفلا يخجل العابثون بالحقائق من سماجة عبثهم، حينما يخلطون دين الله بتيارات الضياع والتِّيه هذه؟
ومن أسوأ ما في خلط الإسلام بالديمقراطية أن يظهر الإسلام بمظهر القاصر الذي لا يتم قصوره إلا بترقيعه من غيره، إذ من المؤكد أن الديمقراطية ذات منحى أجنبي عن الإسلام، لها تاريخها وبيئتها التي ظهرت فيها وتطبيقاتها القديمة والمعاصرة التي رسمها منظِّروها بعيداً عن الإسلام، فإذا خلطنا الإسلام بها فكأنما وجدنا فيه قصوراً احتجنا معه إلى سدّه من الديمقراطية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى يُظْهِر هذا الخلط الباطل الديمقراطيةَ بمظهر مضلِّل، حاصِلُه أنها الحلم المنشود الذي إذا لجأت إليه المجتمعات الإسلامية حُلّت مشاكلها واستقامت أحوالها، مع أن الديمقراطية تعاني كما رأيت إشكالات كثيرة خلَّفتها في المجتمعات التي طبقتها، لكن تجاهل الحقيقة عند أنصار الديمقراطية حملهم على إظهارها بمظهر مضلل، يعتمد الانتقائية في عرضها لهذه الأمة التي كمَّل الله تعالى بنفسه لها دينها، فلم ولن يبقى بعد إكمال الحكيم الخبير مجال لوجود نقص تحتاج معه الأمة إلى تكميل.
وأعجب لمن يزايد في دعايته للديمقراطية عندنا بمواقف تقع في البلاد الغربية لعدد من الساسة مع شعوبهم، يدلل بها على مدى رعايتهم لهم وشدة حدبهم عليهم، وكأنه لا يجد ما هو أنبل وأشرف في تاريخ أمته من مواقف لم يكن يراد بها إلا وجه الله، لا الدعاية الانتخابية التي أخذت بألباب الساسة في الغرب، فاصطنعوا مواقف وأقوالاً جذابة، رغبة في جني ثمارها عند أول سباق انتخابي قادم.
ألا يجد أبناؤنا المروّجون للديمقراطية في سِيَر خلفاء الأمة الراشدين مواقف شامخة، تقصر دونها بمراحل مواقف من يزايدون بعرض مواقفهم؟
ألا يجدون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الراشد - لا الديمقراطي - كان يقول لرعيته: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي، ليرفعها إلي حتى أقصّه منه)، وطبق ذلك على أحد ولاته حين ضرب رجلا مائة سوط ظلماً، فقال للذي ضُرِب: قم فاقتص منه، حتى اضطُرّ الوالي إلى أن يصطلح مع الرجل على أن يفتدي منه بمائتي دينار، كل سوط بدينارين، ولما قدمت رفقة من التجار ليلا فنزلوا المسجد قال - وهو أعظم حاكم في الأرض إذ ذاك - لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم، فسمع عمر تلك الليلة بكاء صبي فتوجه لأمه، وقال: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم تكرر هذا منه أكثر من مرة، فلما كان في المرة الأخيرة قالت له: قد أبرمتني منذ الليلة، إني أريغه عن الفطام فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفُطُم، فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، ثم أمر مناديا: «لا تُعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام» وكتب بذلك - لأجل هذا الموقف - إلى الآفاق، فصار العطاء في بيت المال لكل من وُلِد، بعد أن كان لمن تم فطامه، ولما تقرقر بطنه عام الرمادة - حين وقعت المجاعة وكان قد اقتصر على الزيت، دون السَّمن - قال قولته المشهورة: «تَقَرْقَرْ تقرقُرَكَ، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيى الناس». ولئن روّج أنصار الديمقراطية لها، بدعوى أنها شديدة المحاسبة للمسؤولين في الغرب، من جهة أن كل مسؤول لا يستطيع أن يمتلك أكثر مما في رصيده قبل تعيينه، فليعلموا - رغم مافي هذه الدعوى من إشكال تبين بما تقدم - ليعلموا أن عمر رضي الله عنه قد سبقهم إلى هذا النوع من المحاسبة فكان إذا استعمل والياً كتب ماله، بل إنه أمر بعض ولاته فكتبوا أموالهم فشاطرهم أموالهم، فأخذ منهم نصفاً لبيت المال وأعطاهم نصفا، وبلغت به الأمور حدّاً رعى فيه حق الحيوان - فضلا عن الإنسان - حتى إنه كان مرة في سفر فعدل بمن معه إلى راعي غنم ليقول له: «إني قد مررت بمكان هو أخصب من مكانك، وإن كل راع مسؤول عن رعيته» وقال - وهو في المدينة كما هو معلوم -: «لو مات جَمَلٌ ضَياعاً على شط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه». (انظر لهذه الأخبار: طبقات ابن سعد 3 /،281 ، 286، 292، 294، 301، 305، 307، 313).
وبعد الخلفاء من الصحابة ألا يجدون في سيرة عمر بن عبدالعزيز أن والياً كتب إليه: إنه رُفع لي رجل يسبك فهممت أن أضرب عنقه! فكتب إليه عمر: لو قتلته لأقدْتُك به، إنه لا يُقتل أحد بسَبّ أحد إلا من سبّ النبي صلى الله عليه وسلم، فاسبُبْه إن شئت أو خل سبيله. ولما كتب إليه وال آخر: إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية كتب إليه عمر: إن الله قد بعث محمداً داعيا، ولم يبعثه جابيا، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطْوِ كتابك وأَقْبِل.
ولما دخل المسجد ليلاً عثر في رجل نائم فقال الرجل بجرأة وغضب: أمجنون أنت!؟ فقال الخليفة الحليم الوقور بكل سهولة: (لا)، فهمَّ الجندي بالرجل ليعاقبه، فزجره عمر قائلاً: مَهْ، إنما سألني أمجنون أنت فقلت: لا. (انظر أيضاً طبقات ابن سعد 5/369، 384، 402).
والأمثلة بحمد الله في تاريخ الأمة لا تحصى، تجدها في كل وقت يُطبَّق فيه شرع الله،كما ينبغي أن يطبق، بماتبين به لكل ذي إنصاف أن مجرد مقارنة الإسلام بغيره مما يصدق عليه قول الأول:
إذا أنت فضلت امرأ ذا براعة
على ناقص كان المديح من النقص
أفلا يجد المروجون لمواقف ساسة الغرب الديمقراطي في تاريخ أمتهم شيئاً من مواقف النُّبْل المشرفة التي لم يُرِد بها مَن وقفها أيَّ دعاية انتخابية؟
و الديمقراطية كغيرها من التيارات الأرضية لما كانت تعاني إشكالات مزمنة حار أطباؤها في علاجها، حتى تبرع بعض أنصارها - في المشرق الإسلامي - بحل نادر لها، وفق التصوير الآتي: علاج مشاكل الديمقراطية هو بالمزيد من الديمقراطية! فأضحى العلاج كعلاج صاحب الخمر الذي نُصِح بتركه، فأجاب بقوله:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
ولا يُعهَد في عرف العقلاء أن المشاكل تُحل بمزيد من المشاكل إلا وفق هذا المفهوم الأعوج الذي يُمثِّل حقيقة التيه التي تعانيها هذه التيارات الأرضية.
ومعلوم أن تطبيق أي مبدأ أو نظام كفيل ببيان حسنه من سوئه، والمعاناة التي يُغض الطرف عنها من آثار تطبيق الديمقراطية هي من أوضح الأدلة على بيان ما فيها من عوار آخذٍ في الازدياد بمضي الوقت، إلى أن يصل أنصارها يوماً ما إلى ما وصل إليه أنصار الاشتراكية الذين أقسموا جهد أيمانهم أن تيارهم سيعُمُّ الأرض كلها، وستجد البشرية فيه ما يحقق العدالة المطلقة التي تنشدها.
أما دين الإسلام فإن تطبيقه السليم قد أخضع المنصفين حتى من خصومه إلى الإقرار بأنه يمثل الرحمة الحقيقية التي جعلها الله لهذه البشرية، ولذا لم تزدد هذه الأمة بتطبيقه إلا عزة ومنعة، إلى أن دخلت الدواخل والرواسب على الأمة ورضي فئام من أبنائها باستبدال الذي هو أدنى - من تيارات الانحراف - بالذي هو خير، فتراكمت في الأمة مشاكل يجزم من كان له عقل يعي به الأمور أن مِن المحال أن ترتفع هذه المشاكل بغير الإسلام. وهنا تتضح المعادلة على حقيقتها بين الإسلام وبين الديمقراطية، فالإسلام إذا طُبِّق حُلّت مشاكل الأمة، والديمقراطية إذا طبقت أفرز تطبيقها مشاكل تُحل بمثلها! - وفق مفهوم بعض أنصارها - فمن يستطيع من المنصفين أن يقارن حالاً كهذا بحال الإسلام حين يطبق؟ ولئن كانت الديمقراطية في المجتمعات الغربية حلماً منشوداً عقدوا عليه الآمال مدداً من حياتهم فما ذاك إلا لعدم وجود الإسلام بينهم، فلا غرابة أن يتنقلوا بين التيارات على مدى قرون متطاولة يترنحون بينها، فِعْل التائهين، أما من أكرمه الله بدين الإسلام فكيف يتطلع إلى تيارات التيه هذه، وكأنه لم يعرف تاريخ هذه الأمم التي أضحت هذه التيارات فيها بمثابة المَوْضات التي يتنقل بينها متابعوها، فتزدهر منها موضة في وقت، ثم تعود بالية قديمة، لوجود موضة أجَدّ منها في نظر من استحسنها.
ولئن كان التنقل بين هذه التيارات يستغرق فترات أطول من التنقل بين الموضات فما ذاك إلا لمد الآمال في كل تيار، رجاء أن ينجح، ولإعطائه مزيداً من الوقت، ليتمكن من تحقيق الأحلام المنشودة، وإن أردت البرهان على هذا فتأمل في كتابات لمع نجمها في القرن الماضي حول تيارات وأفكار اضمحلت لاحقاً، وقارِنْها بكتابات اليوم، لتجد مصداق هذا الكلام، بل إن من كُتِب له عمر بعد عدد من السنين لو طالع ما سيُكتب في وقته وقارنَه بما يُكتب اليوم لوجد أن المحصلة النهائية لهذه التيارات - مهما تباينت - واحدة ترتفع أسهمها في وقت ثم تظل تنحدر إلى أن تعلن الإفلاس، وتلك طبيعة هذه المبادئ الأرضية المبتورة عن النور الرباني الذي سماه الله تعالى مِنّةً في قوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات: 17)، وبعث به نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
فلماذا العدول عن مِنّة الله ورحمته إلى نقمة تيارات التيه، وإلى متى لا نعتبر بقوم من بني جلدتنا أضاعوا شبيبتهم في الدعاية الفارغة لتيارات اجتلبوها من الشرق أو الغرب، وجاؤوا كالمبشرين بها، ثم لم يجنوا منها إلا الفشل الذي عم بلادهم والنكد الذي ختموا بها حياتهم - بعد أن انحنت في سبيلها ظهورهم واشتعلت شيباً لأجلها رؤوسهم - عائذاً بالله من سوء الختام.
إذاً فخلْط ما بين الإسلام والديمقراطية ضرب من ضروب التضليل الذي يصدق عليه أنه كذب عليهما معاً، فليست حقيقة الديمقراطية بتلك التي تُصوَّر في أمتنا - مبتورة عن المنحى العقدي الضال الذي قامت عليه - ولا هي بالحل الحقيقي لبني الإنسان، كما يدّعيه أنصارها عندنا، مما لم يدَّعه للديمقراطية أهل الإنصاف في مواطنها التي جُلبت منها، كما أن الإسلام في عظمته وجلالة من كَمَّله تعالى ليس بالوضاعة التي يُجرّ من خلالها جرّاً ليتماشى مع تيار تائه سيرى الناس يوماً سقوطه كما سقط ما قبله.
وإذا سقطت الديمقراطية فستتبين عند ذلك فظاعة الجناية التي ارتكبها من خلطوا الإسلام بالديمقراطية، حين عرّضوا هذا الدين لأن يُنسب للفشل - وحاشاه - لاقترانه بتيار لفظه الناس بعد أن تبدَّى لهم أن آمالهم فيه كانت (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء) النور:39).
وهذا بعينه ما عرّض الإسلامَ له من خلطوه بالاشتراكية الفاشلة التي هَوَت في سلة مهملات التاريخ بعد أن لفظها الناس.
وما تنبيه أهل العلم الشرعي على خطورة هذا الخلط بين الإسلام وتيارات التيه قبل سقوطها إلا إبانة للحقيقة من جهة، واستباق لكارثة وصم الإسلام بفشلٍ لم يتسبب فيه من جهة أخرى.
إذاً فليُحْسب فشل الديمقراطية الحاضر والقادم عليها هي، وليسلم دين الله من الصدّ عنه، لسبب لا تعلق له به، وليرتقب ناصرو الديمقراطية سقوطاً قريباً لها، بعد أن صَمّوا آذانهم وأغمضوا أبصارهم عن وقائع فشلها الكثيرة، ومنها هذه الوقائع الراهنة في السياسات الظالمة خلال السنوات العشر الماضية، التي أزهق الغرب فيها من الأرواح، وأحل بها من الخسائر المادية ما لم يَخْفَ على أحد، كل ذلك بحجة فرض هذه الديمقراطية بالقوة على شعوب المنطقة. ولا عجب فقد أغمض مناصرو الديمقراطية أبصارهم من قبل عن المفاسد الخلقية المنتنة التي أوجدتها الديمقراطية في كل مجتمع حلت به، باسم الحرية الشخصية، فغدت أرقام الفواحش في تلك المجتمعات وصمة عار توضح لك معنى قلب الحقائق عند الحديث عن (حقوق الإنسان) حيث جُعِلَ هذا الإنسان - الذي كرمه الله - بمثابة السلعة الترويجية، تُنشَر الدعاية المخزية المتعلقة به كما تنشر لأي سلعة أخرى، وكان المتضرر الأكبر من ذلك هذه المرأة المسكينة التي بلغت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم أن قال فيها: (اللهم إني أُحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم) (رواه أحمد 3/ 439) فقرنها باليتيم في الضعف، وحرج على من ظلمها حقها . فتأمل كيف جاوز الظالمون المدى في ظلمها والعبث بها باسم مناصرة حقوقها، حتى أزالوا من قاموسها في بلدانهم اسم (العِرْض الشريف) وسط ضحكاتهم الساخرة وغمزاتهم الفاجرة، فصار الوصول إليها سهل المنال، إلى الحد الذي أضحت المرأة فيه فقرة حاضرة ضمن كل تسلية وترفيه عابث منحط، وما هذه المسابقات المأساوية الظالمة، المسماة بمسابقات ملكات الجمال إلا شاهد سنوي مؤكد على مدى النظرة المتدنية للمرأة التي باتت تُعرض على ناظر الرجال كما تعرض الدواب من الخيول وغيرها لينظر في جمالها، تماماً كما ينظر إلى السلع الأخرى في مزادات السيارات عند خروج مايُعبر عنه بالموديلات الجديدة كل عام فوا أسفاً على هذا الإنسان كيف استذلته الديمقراطية!، والله لكأن المرأة غير داخلة ضمن حدود التكريم الذي شرف الله به الإنسان ورفع من قدره، وفضله علىكثير ممن خلق تفضيلا! وهكذا أوصلت الديمقراطية شقائق الرجال إلى حال مزرية بعد أن تنوّعت وجوه الانتهاك الوقح لشرفها، وكأن حق (عِرْض) كريم شريف للمرأة يدعو إلى إكبارها وتقديرها من قبل الرجل، بل ويرفع من مستوى العلاقة الإنسانية بينه وبينها، كأنه ليس من الحقوق التي يجب أن تكون من أبجدياتهذه العلاقة! وهذه المسألة بعينها تبرز جانبا من الصورة المضللة حين يُخلط الإسلام بالديمقراطية، ففي الوقت الذي يُنتهك فيه (العِرض) البشري في ظلال الديمقراطية، وباسم حقوق الإنسان وحريته، يجعل الشرع الشريف حماية هذا العرض ضرورة عظمى من الضرورات الخمس التي إذا اختلت اختل البناء بأسره، ويجعل عقوبة العابثين بالأعراض أشد العقوبات، ثم يريد مزوّرو الحقيقة أن يصدقهم الناس حين يخلطوا ديمقراطيتهم العابثة بدين الإسلام - الحامي الأكبر للعرض البشري - كما أرادوا أن يصدقهم الناس بدعواهم تطابق ما بين الإسلام وبين الديمقراطية في مفهوم (الحرية) وهم يرون أن ما يسمّى بالحرية في الغرب بلغ من التسيّب حدّاً سُمِح فيه لعُبَّاد الشيطان أن يمارسوا طقوس عبادتهم الهمجية المنحطة بلا نكير، لأن التعددية والأفق الديمقراطي لا يضيق عن السماح بممارسة هذا اللون من العبادة، ولو كانت للشيطان عدو الإنسان الأول، وبعد ذلك كله يقول المزوّرون: إن الإسلام كالديمقراطية قد جاءا بالحرية وبحقوق المرأة، فوجوه الألفة بينهما قوية! ويلوون كعادتهم نصوص الشرع الشريف لتثبيت أكذوبتهم المكشوفة.
وبكل حال فإن الإسلام - بحمد من أكمله - ليس شيئاً ضبابيّاً غامضا كالليبرالية مثلا الموصومة في الغرب دوماً بالغموض وعدم الوضوح، حتى قررت الموسوعة الشاملة أنها مصطلح غامض، لأن معناها يتبدل بمرور السنين! وقررت الموسوعة البريطانية أن من النادر أن توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض، ولهذا انهارت بعض حركاتها لهذا الغموض المطبق (انظر حقيقة الليبرالية ص16) فأما دين الله فلم يكن قط خفيا غامضا، حتى يُنقِّله المتهوِّرون تبعاً لأهوائهم، بل هو جلي المنهج واضح المعالم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها) (رواه أحمد 4/126)، فمن هَوِيَ تيارات التِّيه من ديمقراطية أو ليبرالية أو اشتراكية أو غيرها فليكن واضحاً، ولا يُجيِّر هواه على دين الله، لينشُره في الناس من خلال مَسْحة شرعية يضلل بها الناس، فإن هذا المسلك المغلوط هو عين ما سلكه الخوارج الغلاة، ولكن في اتجاه معاكس لاتِّجاه هؤلاء، حيث جعل الخوارج تشددهم وتهورهم وظلمهم منسوباً إلى دين الله، وهذا هو المفهوم الذي سعوا إلى نشره في الأمة، وأفهموه من سايرهم في باطلهم، ألا فقَاتَلَ الله الغلاة والجفاة معاً، ما أشد جنايتهم على أمة الإسلام!، ولِله ما أعدل وأصدق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي وصفت أهل التفريط والإفراط معا بوصف واحد، وهو وصف (شِرار الأمة)! إذ جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخوارج الغلاة: (شرار أمتي) الحديث (رواه الآجري: 56)، كما قال في الجفاة من حاملي الأمة على طرائق الزائغين قبلها: (ليَحْمِلنَّ شرارُ هذه الأمة على سنن الذين خَلَوا من قبلهم) الحديث (رواه الآجري: 34).
وما ذاك إلا لأن أهل الإفراط والتفريط جانبوا الوسطية الحقيقية التي جلّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمّته، فمن جاوز هذه الوسطية غلوا أو جفاء فلا وصف أدق من وصفه بما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي نهاية مقالي أدعو أهل العلم عموماً، والزملاء المختصين بدراسة العقيدة والمذاهب المعاصرة - ممن يتولون تدريسها في الجامعات الإسلامية - إلى مزيد من الكتابة العلمية الموثَّقة في هذه المسألة، وذلك من خلال مقارنة أوسع للقضايا المثارة بين الإسلام والديمقراطية، كالحرية، وعموم مسائل المرأة ونحوها من مواضع الممايزة والمباينة الكبيرة بين الإسلام والديمقراطية، مما تعمدت تجنب النقاش الموسع فيه خلال هذه المقالة، رغبة في عدم الإطالة، وعسى الله أن يجعل هذه المقالة متبوعة بمقالات علمية، تجلي للناس هذا الغبش الذي اشترك في إحداثه أكثر من طرف، حتى صار كثير من عوامّ المسلمين يتوهم أن الديمقراطية مصدر الأمل القادم الذي ستُستنقذ به بلادهم بعد أن أُوهموا أن دينهم العظيم لا يعارضها، إذاً فلنوضّح الحقيقة، لنُفهم فلذات أكبادنا من بنين وبنات أن كل أمر تُمدَح به الديمقراطية من جهة مروجيها يستحيل - إن كان محل مدح فعلاً - ألا يكون موجوداً في دين الله على أكمل وأتم ما يكون من الحسن والبهاء، ليعتز فلذات الأكباد بمصدر عزهم الوحيد، ويستغنوا به عما سواه من تيارات الشرق والغرب، وينأوا بأنفسهم عن إشكالات تلك التيارات المهلكة التي هي اليوم سرطان البشرية الأكبر. ومما يؤكد على أهل العلم ضرورة الكتابة المؤصلة في هذا الجانب الكبير مانجده من كتابات بعيدة عن المصداقية، عظيمة الزيف، فلا علاج لها إلا بالعلم المؤصل على وفق الشرع، ومن الله وحده نستمد التوفيق.
مَسَّكَنا الله بما تركنا عليه رسوله صلى الله عليه وسلم من المحجّة البيضاء، وسلَّمنا من الغلو والجفاء إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه.
- (*) أستاذ العقيدة المساعد بجامعة الملك سعود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
من فضك اذا كان لديك تعيلق ضعة هنا سيتم حزف التعليقات المسيئة